رحمةٌ ووفاء

تُحدثني صديقتي من المملكة العربية السعودية عن قصة إحدى زميلاتها في المصرف: ” قصتها قصة غريبة، تزوجت في سن مبكرة  من رجل أحبته حتى اعتبرته زوجا وأبا وأخا وصديقا وزميلا، أحبته حبا عظيما وأنجبت منه أربعة من الأولاد، ربتهم بمهجتها وأمطرت عليهم بالرعاية والأهتمام، واصل زوجها في دراسته وتدرج في منصبه حتى بلغ منصبا عظيما، وحين بلغت هي من العمر الخمس والثلاثين سنة – أي عشرون سنة من العطاء- جاءها زوجها ليخبرها أنه أحب امرأة أخرى ويريد الطلاق منها ليتزوج بتلك، لن أدخل في تفاصيل صدمتها ولكنها في آخر المطاف أخذت تقبل يديه رجاءا كي يتزوج عليها فقد حلل الشرع من الزوجات أربع! ولكنه رفض لأن المرأة التي يريد ترفض أن تكون شريكتها في زوجها، وهذا ما حدث، طلقها وتزوج بتلك، دخلت في مرحلة اكتئاب شديدة ترفض أن ترى الناس وأن تعيش حياتها، وبعد مضي ثلاث سنين من التعب النفسي العنيف،خرجت إلى الدنيا جسدا بلا روح ، حسبي الله ونعم الوكيل”، هزتني قصتها جدا ،سألتُ صديقتي وكيف هي الآن ، فقالت لي: تعيش حياتها فقط وكأنها تعد الأيام حتى يتوفاها الله ، رغم إنها في ريعان شبابها!!

صديقتي الحبيبة، طلقها زوجها ليتزوج من زميلته في العمل لأنهُ أحبها، وهي في سنة أولى زواج! وتحملُ في أحشائها طفله، كانت ستقبل لو أنهُ تزوج عليها قبول الممتعض فهذا الحل أحلى الأمرين ، ولكنه طلقها دون رحمة ووفاء. ناسياً – وهو المُدعي للدين – موقف الرجل الذي ذهب إلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يستشيره في طلاق امرأته، فقال له عمر: لا تفعل، فقال: ولكني لا أحبها، فقال له عمر : ويحك ألم تبنى البيوت إلا على الحب؟ فأين الرعاية وأين التذمم وأين الوفاء؟

من المُلام في هذا المقام؟ أنلوم الزوج لأنهُ لم يصن قلباً أحبه، ومهجة منحتهُ العطاءات، فانعدمت عندهُ صفات الوفاء وأراق بسكينه الرحمات كُلها، أم نلوم المرأة الدخيلة التي تشتري سعادتها بدراهم من نار، فتحرق قلب امرأة لا ذنب لها سوى إنها أعطت وأوفت. أم نلوم الاثنين معا؟ ومن منهم يستحق الملامة الأكبر، الزوج، فهو المطالب بالإخلاص والرحمة والوفاء وهو الأجدر بمراعاة مشاعرها من الغريب لانه القريب الحبيب! أم المرأة الدخيلة لأنها من جنسها وتحمل الرقة ذاتها وتعرف تماما ماقد تمرُ به !

من المواقف الجديرة بالذكر: موقف جميل رأيتهُ وأنا عائدة من رحلة قصيرة من البحرين الشقيقة في الإسبوع المنصرم، فحين حطت الطائرة أرض الدوحة كان الركاب ينزلون على سلم الطائرة لنصعد الباص الذي سينقلنا إلى المطار، ونحنُ في عملية النزول لفت انتباهي رجل مسن، يتجاوز الثمانين من عمره، محدودب الظهر، وزوجته التي في نفس المرحلة العمرية معه، ممسك بيدها، ليُعينها على النزول – وهو أحوج منها لمن يُعينه – وفي كل عتبة يخبرها ” الدرج هذا متعب، أنتي بخير؟ ألحين بنوصل”، وهي تبتسم ابتسامة العروس وتقول له: ” أنا بخير”، وحينما دخلنا الباص أجلسها على الكرسي الوحيد الذي لا يوجد غيره، ثم قام أحد الشباب بالتخلي عن كرسيه ليجلس الرجل الهرم على الكرسي في الطرف الآخر، كان كل دقيقة – دون مغالاة – ينادي زوجته : “حليمة أنتي بخير”، إذ كرسي حليمة “زوجته” في الجهة الآخرى من الباص: لتجيبه حليمة “بخير بخير”. وحينما وصل الباص لأرض المطار وضع يده في يدها ثم تابعا خطواتهما واختفا عن أنظاري. كم كنت سعيدة في تلك الليلة وأنا أشاهد “حليمة” وزوجها في حُلّةٍ أبهى من حُلّة العروس والعريس في ليلة زواجهما. مُتكلل زوجها بالرحمة متوشح بالوفاء ناثراً عليها ورود العناية والحب، رددتُ في نفسي “هكذا المودة والرحمة وإلا فلا..” قيل قديما: ” الحب المطلق يُطيل العمر”.

قرأتُ منذ زمن مقال جميل للكاتب مصطفى محمود – رحمه الله – بعنوان: ” الحب لا الرحمة نعم” ، يقول فيه: “الرحمة تحتوي على الحب بالضرورة والحب لا يشتمل على الرحمة، الرحمة أعمق من الحب وأصفى وأطهر،كلنا قادرون على الحب بحكم الجبلة البشرية وقليل منا هم القادرون على الرحمة، ولذلك جاء كتاب الحكمة الأزلية ” القرآن” الذي تنزل علينا بالحق يُذكرنا عند الزواج بالرحمة والمودة والسكن، ولم يذكر كلمة واحد عن الحب، محطما بذلك صنم العصر كما حطم أصنام الكعبة من قديم. و ليس في هذه الكلمات مصادرة للحب، أو إلغاء للشهوة و إنما هي توكيد، و بيان بأن ممارسة الحب و الشهوة بدون إطار من الرحمة و المودة و الشرعية هو عبث لابد أن ينتهي إلى الإحباط. و الحيوانات تمارس الحب و الشهوة و تتبادل الغزل. و إنما الإنسان وحده هو الذي امتاز بهذا الإطار من المودة و الرحمة و الرأفة، لأنه هو وحده الذي استطاع أن يستعلي على شهواته؛ فيصوم و هو جائع و يتعفف و هو مشتاق. و الرحمة ليست ضعفا و إنما هي غاية القوة، لأنها استعلاء على الحيوانية و البهيمية و الظلمة الشهوانية.الرحمة هي النور و الشهوة هي النار.و أهل الرحمة هم أهل النور و الصفاء و البهاء، و هم الوجهاء حقا.و القسوة جبن و الرحمة شجاعة.و لا يؤتى الرحمة إلا كل شجاع كريم نبيل والرحماء قليلون وهم أركان الدنيا وأوتادها التي يحفظ بها الله الارض ومن عليها.


نعم الرحماء قليلون وهم أركان الدنيا وأوتادها، اللهم إنا نسألك أن نكون منهم فنَرحم ونُرحم..آمين.

مقالات ذات صلة

قصيدة : أَمَلْ

أَليسَ المَمَاتُ مَمَاتَ الأمَلْ                            وقتلُ النفوسِ قُبيلَ الأجلْ أليسَ الأنينُ أنينَ الفراق                           فبئسَ الفراقُ إذا ما استَحَلْ وبئسَ الذي خانَ عَهْدَ الوِصالْ                           …

للرجال فقط

تُحدثني صديقتي المتزوجة فتُخبرني أنها وبينما هيَ في عملها صباحاً، شعرت بوعكة صحية قوية، فقررت الرجوع إلى المنزل، حينَ دخلت المنزل كانت تبحث عن زوجها…

عزيزي الرجل

تدخلُ علينا “أم فلان” المجلس وتأخذ مكانها بالقرب من الصديقة الأقرب لتستطيع الدردشة الجانبية، والفضفضة الخاصة، بعد السلام على الموجودات، وبعد تعليقات من هنا وهناك، تبدأ اختنا…

حَبِيبة غَيْرِه

اشتَهَرَتْ قصةُ أَحد الفتيات في أيامِ الدراسةِ الجامعية، فَقَدْ أَحَبَتْ أَحَدُ زملائها في الجامعة، وأَحَبَها حُباً شديداً،وبَعْدَ أربع سنوات مِنْ الحُبِ والوَلَع ، اختارَ إبنةُ…

ملل

أدخلُ المنزل لأُلقي التحية ، فأسمعُ من أخي الأصغر “إبراهيم” الكلمة المعتادة “ملل”، ليُدهشني دهشة تتشقلب منها قسماتي، أحضنه بعض الوقت ثم أعدد لهُ كل…

التعليقات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اختر العملة
تواصل معنا . .
كيف يمكنني أن أساعدك؟
مرحبا
كيف يمكنني أن أساعدك؟