الدجاجيون

لَديَّ صديقات اُسَمِيهنَّ “الدجاج” لأنهم ينامون مبكراً جداً ويصحون مبكراً جداً، ولم أعتد يوماً أن أكون مثلهم، فساعات العطاء عندي تمتدُ من المغرب حتى الفجر، وفي هذا الوقت أكتب وأقرأ وأحفظ، وأكونُ “رايقة ” تماماً.. وكلما اشتدت ساعاتُ الليلِ حُلكة اشتد “الروقان” بين جَنبيّ.

فَكم يصعبُ عَليَّ النهوض من نومي لأستعد للعمل وأتوجهُ إليه، رغم أن العمل هو بالنسبةِ لي ذلكَ المكانُ الجميل، به عائلتي الأُخرى التي تنتظرني، والتي بها من أُعاونهم ويُعاونوني، إلا أنّ مُفارقةَ لذيذ النوم أمرٌ ليسَ بالهين بالنسبةِ لي. بل هو التحدي الجَلَل.

أما “الدجاجُ” مِن الناس الذين أعرفهم، فهم مواظبون على النوم في ساعاتٍ مُبكرة والنهوض في ساعاتٍ مبكرة أيضاً، والتي تكون في ساعاتِ الفجر الأولى، لِيصحوا من نومهم لصلاةِ الفجر، وليَستمتعوا بالفُطور المَلَكي، قد يكون ذلكَ الفطور “سندويتش جبن وكاس من الحليب”، إلا أنه يبقى مَلَكيًّا، لأنهُ تم أكله بهدوءٍ ورَوية، وتم رشف الحليب بمتعة، وهم يَستَمِعُون إلى ما يُحبون مِن الآيات القرآنية، أو إلى نوع خاص من الموسيقى الهادئة، أو مشاهدة برنامَجِهم الصباحي المُفضل، أو الاستماع إلى برنامج إذاعي وطني أو أو… فَتَكُون المَلَكية في جَوهر الشُعور والمُتعة، لا مَظهر المائدة ونوعية الطعام.

وجدتُ في حياة “الدجاج” من الناس، بركة كبيرة في أرزاقهم، وألاحظ أنهم يكبرون وينمون مادياً بسرعة يتمناها جميع الناس من حولهم. وليس في قولي انبهار أو عجب، فقد قال ذلك سيد الخلق : “اللهم بارك لأمتي في بكورها”. ومازلتُ أتذكر قصة أحد الأقرباء كان موظفا عاديا في وزارة عادية بالدولة، وكان من الفئة “الدجاجية” من الناس، ينام مبكرا جدا ويقوم قبيل الفجر لينتظر المؤذن في المسجد، فيؤدي الفريضة، ،  لِيَشرَع بعدها بالهرولة  – كرياضة صباحية – لوقتٍ ليسَ بكبير ، ليذهب بعدها للاستعداد للعمل ومن ثم اليه..

 مازلت ُ اأتذكر تعليق والدي : “لا أذكر قط أنهُ جاء في غيرِ موعدهِ لصلاة الفجر”، حتى أحسستُ أن والدي باتَ يُنافسهُ في ذلك {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}[1].. لم يكن والدي الفائز بالطبع في هذا التنافس الشريف! الخلاصة أن “أخانا” بدأ مشروعاً عقارياً، ونما وكبر وأصبحَ من الأثرياء اليوم. لعلي لا أتعجب من النتائج، فهو بَذل الأسباب جميعَها، وتوكلَ على الله في شأنه، وأدرك أوقات البركة، فبارك الله له وارتقى حتى بلغ.

ومن المُضحك أن لدي صديقة مقربة جداً، من صنف “الدجاج” الأصلي، تستلمُ مرتباً شهرياً يقلُ عن نصف مُرتبي، ولديها من الالتزامات ما يفوقُ التزاماتي بكثير، وهي تعيشُ الحياة التي أعيش، بنفس الدقة ومستوى الجودة. ربما تعجبون إن أفصحتُ أننا نضع الميزانية الشهرية معاً، وأننا نأكل في نفس المطاعم، نتصدق سويةً، ونتبضع سويةً، إلا أنني أضطر كلَ شهر أن أستدين منها مبلغاً مُضحكا لأمور تطرأ. ولعلي هنا لا أتعجب أيضا فالمعادلة واضحة بالنسبةِ لي.

أجبرتني صديقتي منذ فترة أن أكون “دجاجية” مثلها ليومٍ واحدٍ فقط، فَجاهَدت وناضَلت وكَافَحت حتى لا أنام بعد أداء صلاة الفجر، فعادتي بعد أن أُكمل صلاة الفجر أذهبُ مسرعةً لأرتمي في أحضان السرير الدافئ لأواصل النوم إلى أن يحين وقت العمل. ففي هذا الوقت أشعر أن كل 10 دقائق إضافية من النوم تعني لي الكثير. ” نرجع لمحور حديثنا “، أصرت صديقتي “الدجاجية” أن لا أنام بعد الفجر ففعلت ، فأخذتُ ألبس مَلابسي بطريقة أخرى، وأتناول طعامي بلَذة، واتفقنا أن نلتقي في المقهى المُفَضل لنقرأ شيئا ونحن نرتشف القهوة معاً. فَوافقتُ على مَضَض…

خرجتُ من منزلي بِرَوية وهدوء، لا أسابقُ الريحَ حتى أصل إلى عملي في الوقت المحدد كعادتي، بل دخلتُ السيارة ووضعتُ الأناشيد المُحَبَبَة الصباحية، وشَرَعت ُ في قيادة سيارتي باستمتاع، وكَأنني ” توني ماخذة الليسن “، لأَرى حولي أجواء لم أرها من قبل، فَالطرُقات ليست الطرُقات، والناسُ ليسوا الناس، فَفِي هذا الوقت لا ترى غير “الدجاجيين”، وحتى الطقس من حولي مختلف تماماً، فأخذتُ نفساً عميقاً وقُلتُ بصوتٍ مسموع : “ياااااه هالكثر كنت حارمة نفسي!! “؟ دخلنا كوستا، ذلك المقهى المفضل لنطلب الشراب المفضل، ونجلس جلسة شعرتُ فيها “بأضعاف الروقان” الذي كنتُ أشعرهُ في وقت الأصيل.. فقرأتُ في وقتٍ وَجيز الشيء الكثير، وشربت قهوتي باستساغةٍ ولذة، وبلغت عملي قبل الوقت بخمس عشرة دقيقة وبابتسامةٍ عريضة، وروح خفاقة.

كم شعرتُ باستمتاع شديد، وكم أدركتُ {والصبح إذا تنفس}[2]، وكم استشعرتُ الجَمالَ من حولي، والنورَ المُنبثق تدريجياً للكون، وعلمتُ أنهُ بغض النظر عن فوائدِ الإبكار والبكور من بركةٍ في الرزق، أو ثواب عبادةٍ معينة {إن قرآن الفجر كان مشهودا}[3] أو غير ذلك.. فإن جمالَ الحياةِ في ذلك الوقت يَنقُلك من عالم السرعة إلى عالم المُتعة، ومن “اللا لذة” إلى رحاب اللذة، ومن التخبط إلى التَرَوي، وأضف فوائد جمة منحها الله عبده من بركة ونحو ذلك.. قُلتها بصوت مسموع حينها: “فليقبلني عالم الدجاج… فأنا دجاجة منذ اليوم”.

هل يقبلني عالم الدجاج؟ وهل ياترى استمر؟

رحاب شريف


[1]
 سورة المطففين آية 26

[2] سورة التكوير آية 18

[3] سورة الاسراء آية 78

مقالات ذات صلة

البخلاء و الحب

مازلتُ أتذكرُتلكَ القِصَة الحقيقية التي قَرَأتُها والتي تَمَّ تَمثِيلِها وعَرْضها في دُورِ السينما،  قِصةُ أَحَد الأزواج الذي عَلِمَ مِنْ طبيبِ زَوْجَتهِ أنها مُصابة بِمَرضٍ عُضال وإنها…

“ريموتك” أينَ؟

تَدخلُ علينا ونَحنُ مُجتمعين وهي تُناضلُ مِنْ أَجلِ مُداراة دَمعاتها، مُطأطأةَ الرأس ، مُنحيةَ الكتفين ،وكأنَّ نِهاية العالم تلوحُ أمامَ عينيها ، وهي التي تَزَلْزلُ…

حَبِيبة غَيْرِه

اشتَهَرَتْ قصةُ أَحد الفتيات في أيامِ الدراسةِ الجامعية، فَقَدْ أَحَبَتْ أَحَدُ زملائها في الجامعة، وأَحَبَها حُباً شديداً،وبَعْدَ أربع سنوات مِنْ الحُبِ والوَلَع ، اختارَ إبنةُ…

“يا سلام”

سمعتُ قصة “محمد بن أبي عامر” الشهيرة منذ سنوات عديدة وشاهدتُ قصتهُ في المسلسل التاريخي الشهير:”ربيع قرطبة”، إذ تتلخص قصتهُ أنهُ كان فقير معدم، وكان…

مقال: مُفيد!

ارتبط مقهى كوستا في حياتي بالجد وعمل المفيد، فعندما كنتُ ادرس البكالوريس اضحيتُ أُلاكم المقررات الصعبة في هذا المقهى دراسةً وتلخيصاً ، خصوصاً في آخر سنة دراسية ،…

التعليقات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اختر العملة
Open chat
Hello ????
Can we help you?