“ولكنها قبيحة!”

دَخلَ رَجلٌ مكتبَ البريد، فرأى طابوراً من الناس، أخذَ يراقبُ الأجواء ليُدرك سببَ الزحام، فلاحظَ أنَّ موظفَ البريدِ متجهمٌ عابس ، يعملُ ببطىءٍ وملل ، فأدركَ سبب بطىء حركة الطابور نحو الشباك.

وقفَ الرجلُ في الطابور حتى وصلَ إلى الشباك، ليعطي موظف البريد الظرف المراد إرساله مع دراهم معدودة قيمة الطوابع ، فتأملَ الرجلُ شكلَ موظف البريد ، فأعجبه ُشعرهُ الأسود الكثيف ، فأخبرهُ : ” ليتني امتلكُ مثلَ شعركَ الأسود الناعم اللامع “، تَغيرت حينها ملامح موظف البريد، وأسعدهُ الثناء ، حتى كادَ أن يطير دونَ جناحين، تَعَمَدَ الرجلُ البقاءَ في مكتبِ البريد ليُراقب الأجواء ، فلاحظ أَنَّ الطابور غدا مسرعاً وأن البطىء والملل الشديدين عند موظف البريد انقلبا إلى ابتسامة وهِمّة. فَسُبحان مَنْ قَلَبَ الملل إلى هِمّة والعبوس إلى بسمة!

كانت هذه القصة من القصص التي قرأتها منذ ستة عشر عاماً في كتاب “كيف تكسب الاصدقاء وتؤثر في الناس” لديل كارنيغي، حيث كنتُ حينها بالصفِ الخامس الابتدائي، بادىء عهدي بالقراءة.

أَضحَتْ هذهِ القصة قانون أساسي في شخصيتي، أبحثُ عن كل شيء جميل لأمتَدِحَه ، فأُسْعِدُ صاحبه.

من المُضحك أنني باشرتُ في تطبيق القانون في ذلكَ العمر، حينها كنتُ في بيت جَدَتي ، ذلكَ البيت الذي لا يَخلُوا أبداً من الضيوف، وكانت هناكَ امرأة نُسميها “خالة فلانة”، احتراماً لعُمرها ، بحثتُ عن شيء جميل بها فلم أجد غير شَعرها الناعم والذي لم يكن لامعاً أو حتى كثيفاً ،كما في قصة البريد بكتاب كارنيغي، فأخبرتُها ببراءة وإيجابية : “شعرج ناعم خالة فلانة “. فوضعت يدها على شعرها وصَرَخت بغضب: “قولي ماشاء الله لا تعطيني عين “.فقلتُ في نفسي :”الحمدلله والشكر”، ووضعتها في القائمة السوداء مباشرة.

حينها كنتُ طفلة، لا اقرأ الناس ولا اختار الألفاظ ، وأحاولُ التأثير باستخدام طريقة “نَسْخ لَصْق”، فلو تَكَرَرَ الموقف اليوم معي وَ وَدِدْتُ أن أُسْعد امرأة كَتلك، بِمديحٍ صادق لَكانت العبارة: “ماشاء الله خالتي شعرج ناعم، تبارَكَ الرحمن”. فهناك عقليات تُؤمن بأن كلَ خدش يُصيبهن مَنْ العَيْن، دَون استثناء. حَفِظَنا اللهُ مِن الخُدوش العقلية.

عندما كنتُ في الجامعة ذهبتُ مع احدى صديقاتي إلى أحد الأفلام السينمائية، وعندما انتهى عرض الفيلم دخلتُ أنا وصديقتي الخلاء “كرمكم الله” لتضبيط وضعية “الشيلة” ، وفي هذا المكان نرى أشكال البنات كُلها وألوانهم. فَبًهرًني وجهٌ كالقمر، فتاة يصرخُ الجمالُ من وجنتيها، ذاتَ شعر كثيف وتقطيعة رائعة،”مصممة آنا على سالفة الشَعَر”. فقلتُ لها دون تَصَنُع أو ترتيبٍ للكلام:”ماشاء الله، شعركِ جميل جداً جداً” ، فتلونَ خدها الأبيض بلون الخجل وقالت لي بسعادة عارمة : ” مشكورة من ذوقج “. ثم هَمِمْتُ بالخروج وأنا أُلاحظ غَضب صديقتي ، ما إن وَطئت قدماي خارجُ المكان فإذا بها تصرخُ في وجهي والشرار يُشعشعُ من عينيها ، ” فشلتينا رحاب شفيج متخرعة؟ الحين بتجوف روحها” ،أجبت: “بالعكس كانَ شَعْرُها جميلاً فأبديتُ إعجابي ، كنتُ اُعبرعن ما يجول في خلدي بصوتٍ مسموع ليس إلا”، ونَصحتها بقراءة كتاب كارنيغي”. لأسمع منها ما أسمعهُ من غالب الناس : “صج متفرغه”.كم ادركتُ جمال هذا القانون،وكم أشعرُ أنني أنشرُ السعادة وانا أُطبقه، فأنا بتطبيقي لهذا القانون لا أكذب ولا أجامل ولا أبالغ أو حتى أتكلف ، ولكني أذكرُ واقعاً جميلاً بصوت مرتفع بدل من أن يكون “سايلنت”.

لبثتُ كذلك في كُلِ حِينْ ، حتى في مرضى امتدحُ الممرضة بصدقٍ تام، لأرى الاهتمام تَضاعَف،والعِناية تَكَثَفَت، والإبتسامة ارتَسَمَت. فسبحانَ الله! وكأني أملكُ قلماً أرسمُ به البسمات على وجوهِ الآخرين بكلماتٍ إيجابيةٍ ،بسيطةٍ ،صادقةٍ ومجانية!

أحياناً امتدحُ بعضَ الأشخاص في مغيبهم، فأتفاجأ بالسامع يقُاطعني ب:”ولكنها قبيحة” ليذكرُ ما يُعيبها خَلقا أوخُلقا، مركزاً على الناقص،مُتجاهلا الجميل والحَسَنْ.قلةٌ قليلة تستطيع أن تستمع إلى المديح دون أن تقول :”ولكن” فتذكر الجانب السيء بعد لكن لتُغرب وتُغدق في الذم والهجاء. والقلة التي تكادُ تكون معدومة، تلك التي  تستمعُ لمديح “فلان”  ل”علان” في غيابهِ فتضيفُ إلى مديحِهِ مديحاً آخر.

جَميعُنا كَالقَمَر، لهُ جانبٌ مُظلم.نستطيع دائما أن نَجد ما يُقال بعد “لكن”، لأن الكمال للفرد الصمد، ولكن!أيُ سلبية وأيُ ابتذال.أما بَلَغَت فينا القدرة التي تُوصلنا أن نَستَبدل كلمة “ولكن” بكلمة :” كذلك” ، فنضيف الى المديحِ مديحاً،وإلى الثناءِ رونقاً ، وإلى الإيجابية نوراً وألقاً وانتعاشاً.

لنأخذ ما صفى من الناس ونترك ماكدر. ولنكن من أهل “كذلك” بالكلمة الطيبة في الحضورِ وَفي المَغِيب، تلكَ الكلمة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء.

رحاب شريف

16ابريل 2012

مقالات ذات صلة

البخلاء و الحب

مازلتُ أتذكرُتلكَ القِصَة الحقيقية التي قَرَأتُها والتي تَمَّ تَمثِيلِها وعَرْضها في دُورِ السينما،  قِصةُ أَحَد الأزواج الذي عَلِمَ مِنْ طبيبِ زَوْجَتهِ أنها مُصابة بِمَرضٍ عُضال وإنها…

في الجيب

عندما كنتُ في المدرسةِ الإعدادية ، كانت والدتي تعملُ بجامعةِ البحرين، فَذكرت لي يوماً موقف إحدى الطالبات والتي تَخَرَجَت مِن الثانوية العامة بنسبة 87.6 ،…

التعليقات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اختر العملة
تواصل معنا . .
كيف يمكنني أن أساعدك؟
مرحبا
كيف يمكنني أن أساعدك؟