في الجيب

عندما كنتُ في المدرسةِ الإعدادية ، كانت والدتي تعملُ بجامعةِ البحرين، فَذكرت لي يوماً موقف إحدى الطالبات والتي تَخَرَجَت مِن الثانوية العامة بنسبة 87.6 ، والتي ترغب بالتخصص في مجال معين بالجامعة لكن معدلها لم يسمح لها بالحصولِ على ما تُريد، فالتخصص الذي تريدهُ يتطلب معدلاً يفوقُ ال 90%. فقاطعتُ أمي مُتَعجبة :” كيف تقدر تطيق روحها ومعدلها أقل من 90%”، ردت علي أمي ووجهها قد تلونَ بألوانِ الغضب : “قولي الحمدلله والشكر” وانصرفت وهي تقول : “الله يعلم إيش كانت ظروفها”، وصادفَ أن حَصلتُ – لظروفٍ جَبّارة – على نفس المعدل في الثانوية العامة وبالدقة النسبية نفسها ، رَغم أني عشتُ حياتي المَدرَسية كُلها بإمتياز بل وبتَفوق. لا عَجبَ سيداتي سادتي : فالعيب في الجيب .

خالتي لها حس فكاهي اشتهرت بهِ ، ما تكادُ تَتَكلم إلا وضَحكَ الجميعُ مِمَن حولها، في ذات يوم كانت تقضي فيهِ بعض المشاوير معَ جدتي الحبيبة، وهما معاً ما إن شَرَعَت خالتي في التعليقِ على سياقتي التي لا تُعجبها بتاتاً ، والتي وَصَفَتها بِسياقةِ ” المَجانين”. وما كادت أن تَنتَهي مَن كَلامِها إلا وصَدَمَت أَحد الأرصِفة ، وتَلتها بعدَ قليلٍ بصدمةٍ أُخرى ، وماوصلوا إلى غايتهم حتى وَصَلت بذلك الصدمات الثلاث. حتى عَلَقت جَدتي بمقولتها المشهورة : “العيب في الجيب”.

زَميلتي في العمل عَلَّقَت غيرَ قاصدة على زميلٍ لنا بالعمل بأنهُ صاحب قلبٍ مَيت ، يَنسى كثيراً وقد تَختَلط عليهِ الأُمور، فإذا بها في اليومِ التالي مباشرة تنسى أحد الاجتماعات الهامة حتى تذكرتهُ قبلَ الموعد بقليلٍ جداً، وتَنسى أَنَّ لديها مقابلة شخصية لَدى إحدى المؤسسات الكبرى التعليمية بالدولة ، وتَتَابعت عليها الأمور وتَعَقَدت ، رَغم نِظامها الشديد، ودقتها البالغة وتخطيطها المتناهي .عندما عاودت العمل اخبرتني وزميلنا عن ما جرى لها فَعَلِمْتُ حَتماً أنَّ ذلكَ كله فقط بسبب تعليقها عليه يوم أمس، رَغم أن التعليق لم يكن غيبة بَل كانَ أمامهِ وبحسٍ فكاهي ، ودون قصد أبداً، ولكنهُ في الجيب.

الغريب في الأمر أن هناكَ أحياناً تعليقات تأتي عجباً من أمر ما ، فالفطرة البشرية تَمرُ بقممِ الاستعجاب ، وسحاب الاستنكار ، ولكن العقاب مدفونٌ لا محاله، ما إن تنطق بالحرف حتى يقوم العقاب من قبرهِ كَالجنيّ الأسود. وكَأنَّ القانون أن لا تستنكر أو تستغرب سراً او جهراً ، ولا تغتب أبداً لأن المصيبة ستكون أعظم والعقاب سيكونُ أشد وأشد.

ابن صديقتي الصغير : “الياس” في الصف الأول الابتدائي ، ما إن يَسمَعُني وأمه نَتجاذب أطراف الحديث ويدركُ أن هناكَ تعليقات هنا وهناك حتى يأتي بكامل قوى أحبالهِ الصوتية ليصرخ في وجوهنا : “لا تعيبوا فَتُعابوا “. فَتَتَجَمد ملامحنا خوفاً وندماً. لستُ ادري من أينَ التقط الياس هذه المقولة التي تعني تماما مقولة ” العيب في الجيب” ولكن ما أدريهِ حتماً مدى صدق هذه المقولة.

لَعلَّ كل مَن  يقرأ كلماتي يستحضرُ مَوقفاً معيناً مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالعيب و الجيب، وما إن تتراقص شفتيهِ بذكر تعليق مُعين حتى يَخرجُ العيبُ من الجيبِ مُتجلياً ليهمسُ في أُذُنيك كالشيطان الرجيم :”لا فِرار”. حينها وكأن لسان حاله يقول : ” ياليت الذي كان لم يكن”. فمن الأمثل أن لا نغض الطرف عن ” لا تُظهر الشماتة بأخيك، فيعافيهِ اللهُ ويبتليك ” أو ” من عيّر أخاهُ بذنبٍ لم يمت حتى يعملهُ”.

لقد تعلمتُ درس العيب والجيب جيداً، ولكني دفعتُ ثمنهُ باهظاً،  ثمن كَلفني أن أخجل حياتي كُلها من معدل الثانوية العامة.

اللهم اشغلنا باصلاحِ عيوبنا وثبتنا على طاعتك..

اللهم آمين..

رحاب شريف

11 ابريل 2012

مقالات ذات صلة

البخلاء و الحب

مازلتُ أتذكرُتلكَ القِصَة الحقيقية التي قَرَأتُها والتي تَمَّ تَمثِيلِها وعَرْضها في دُورِ السينما،  قِصةُ أَحَد الأزواج الذي عَلِمَ مِنْ طبيبِ زَوْجَتهِ أنها مُصابة بِمَرضٍ عُضال وإنها…

“ريموتك” أينَ؟

تَدخلُ علينا ونَحنُ مُجتمعين وهي تُناضلُ مِنْ أَجلِ مُداراة دَمعاتها، مُطأطأةَ الرأس ، مُنحيةَ الكتفين ،وكأنَّ نِهاية العالم تلوحُ أمامَ عينيها ، وهي التي تَزَلْزلُ…

قصيدة : أَمَلْ

أَليسَ المَمَاتُ مَمَاتَ الأمَلْ                            وقتلُ النفوسِ قُبيلَ الأجلْ أليسَ الأنينُ أنينَ الفراق                           فبئسَ الفراقُ إذا ما استَحَلْ وبئسَ الذي خانَ عَهْدَ الوِصالْ                           …

التعليقات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اختر العملة
تواصل معنا . .
كيف يمكنني أن أساعدك؟
مرحبا
كيف يمكنني أن أساعدك؟