البخلاء و الحب
مازلتُ أتذكرُتلكَ القِصَة الحقيقية التي قَرَأتُها والتي تَمَّ تَمثِيلِها وعَرْضها في دُورِ السينما، قِصةُ أَحَد الأزواج الذي عَلِمَ مِنْ طبيبِ زَوْجَتهِ أنها مُصابة بِمَرضٍ عُضال وإنها سَوْفَ تعيشُ لمدةِ سنةٍ واحدةٍ فَقَطْ ، حينها لم تكن الزوجة تعلم عَنْ ذلك ، فَقَدْ حَرَصَ الزوجُ على تَكَتُم الموضوع ، تَبَدَلَ الزوجُ تبدلاً رهيباً ، فأصبحَ الزوج الرومانسي الرائع، الذي يَفْتَتَحُ نَهارهُ بِقُبلةٍ على جَبِينِ زَوْجَته، ويَخْتَتَمُ لَيْلَتهِ بِقُبلةٍ على يَديها، أَصبَحَ لِسانهُ معسولاً، فَلا تَكادُ تخلوا عبارة من “حبيبتي ” أو ” يا حياتي” أو ماشابهَ ذلك مِنْ كَلِماتِ الحُبِ والوِداد والرَحمة. كانَ يَمْنَحُها ما كانَتْ تَتَمَنى طوالَ حَياتِها مِنْ هَدايا، وكَانَ يَتَفَنَنُ فِي مُفاجَأتِها وتَقديم الهدايا لها. حَتى مَرَّ العام ، وذهبا إلى الطبيب كمراجعة عادية ليُصدم الطبيب أنها تشافت مِنْ المَرض تماماً! حينها قُلتُ في نَفْسِي :صَدَقَ مَنْ قال أن الأمراضَ العضوية هي أصلها نفسية.عَزِيزِي الزوج، إن كُنتَ تَملكُ تِلكَ المَواهِب كُلِها فِي إظهار المَشاعِر لِزوجَتِك ، والفَن العَظيم في تَقدِيم الهدايا وصِياغة العِبارات والقُبَل، لِمَ بَخَلْتَ عليها طِيلةَ أيام زَواجكم التي مَضَتْ؟، ما فَعَلْتَ ذلكَ إلا حِينَما أدرَكْتَ أنَها مُغادِرَة دُونَ رَجعة. فأيُ بُخلٍ هذا؟ وأيُ نوعٍ مِنْ البُخَلاءِ أَنْت؟
حَكَتْ لي صَدِيقَة سُعودية مَرّة ،والتي قَدّرَ الرحمن أَن أتَعَرفَ عليها فِي رِحاب الحَرم المَكي ، أن زَوج أُخْتها الكُبرى لم يَقُل لها كَلِمة حُب واحدة طَوالَ حَياتِهم الزَوجِية، حَتى لَحظة الوَداع وهَي تَحتَضِرُ مِنْ سَرَطان عَانَت مِنهُ سَنوات عَديدة – حَفِظَ اللهُ الجَميع مِنْ سائرالأسقام- ، صَرّحَ فِيها الزَوج السُعودي بِأنهُ لن ينساها وسَيَبقى يُحِبُها، بَينما كانَت – رحمةُ اللهِ عليها – تَشْتَكِي طَوالَ حَياتِها مِنْ فُتورٍ الارتباط، وجُمُودِ العلاقة وجِدِّيَتِها، ورَغْبَتَها فِي سَماعِ كَلِمَةٍ رَقِيقَة كَما فِي الأفلام ،كَأَن تَسمَع ” أُحِبُكِ ” فِي نِهايةِ المُكالًمة ، بَدَلاً مِنْ أَن تَسْمَع “طووووووط” حيث كان يُغلقُ السَمّاعة مُباشرةً بَعدَ أَن يُرَتِلُ عليها الأوامر والنواهي ، دُونَ أن يُكَلِفُ نَفْسَهُ حتى بَأن يَخْتِم المكالمة بِ :”مَعَ السلامة”.مازلتُ أتذكرُ مَلامِحَ وقَسَمات صَدِيقَتِي حِينَ يَمَمَتْ وَجْهَهَا نَحْوَ الكَعْبَة وهَي تَبْكِي وتَدعِي لأُخْتِها، التي لَمْ تَرى الراحةَ ولَمْ تَشعرُ بِالسعادةِ فِي كُلِ أَطوارِ حَياتِها. فَلِمَ البُخل فِي البَوْح؟ ولِمَ البُخْل في التَعْبِير، ولِمَ الحِرْص على عَدَم إظهار المشاعر؟ حتى ما إذا تَمّ الإفْصاح يَكُونُ ذلكَ في لحظةِ الانتقال مِنْ الحياةِ الدُنيا إلى الحَياة الأُخرى، ويَعْلَم اللهُ إن كانَت قَدْ اِسْتَطاعَتْ هذهِ الزَوْجَة تَلَقِي تِلْكَ الكَلِمَة وهَي فِي مَرحلة تَحَشْرُج الرُوح! فأيُ بُخلٍ هذا؟ وأيُ نوعٍ مِنْ البُخَلاءِ أَنْت؟
المُؤلم أن هُناكَ أشخاص في الحياة ، حين يَصيحُ هاتفهم الجَوّال ويكونُ المُتَصل هِي الزوجة/الزوج ، فإن المَلامِح تَتَشَقْلب، ويَرِد بِطريقةٍ فاترة وكَأنَهُ قَد شَرَبَ الحَنْظَلَ المُرّ، ولا داعي أَنْ أذكُرُ لكَ الترحيب الشَدِيد والتَهليل الطويل حين يكون المُتصل صديقاً.. فَكَيْفَ ولِماذا ولِمَ؟ أَوَلَيْسَ الأقرَبُون أولى بالمعروف ، أَوَلَيست المُعاملة الحَسَنة أُولَى دَرَجات المعروف..فأيُ بُخْلٍ هذا؟ وأيُ نَوعٍ مِنْ البُخلاء أنت ؟
أُستاذِي فِي الأَدَب ، رائعٌ جداً ، عَلى مُستَوى عالٍ مِنْ الدِين والخُلُق، يُحِبُ زوجتهِ حُباً جَماً، يَتَفَنَن بِكُلِ الطُرُق في تَعْبِير الحُب لِزَوْجَتهِ ولا يَحُول بَيْنَهُ وبَيْنَ التَغَزُلِ بِها أيُ أمر، بَل ويُبْدِع في ذلك ، بِقصائِدهِ ونَثْره ، وخَوَاطِرهِ ، وحتى كَلماته العامية البسيطة ، ومؤخراً عَلِمْت أنهُ هُوَ صاحب كلمات نشيدة ” زوجتي ” التي أنشدَها المُنشد “أبو خاطر” والتي انْتَشَرَت انتِشاراً كبيراً، وعَرَفَ هذهِ النشيدة القاصِي والدانِي. ولا عَجَب فكلماتهُ الصادقة لزَوْجَتِهِ تَسْتَحِقُ الانتشار والنَجَاح. حَفِظَ اللهُ أُستاذِي فِداء الجندي ،لَهُوَ الرجل الكريم ، كَريم الأقوال والفِعَال..
الكلماتُ الجميلة الرَقِيقَة ، هَي بِمثابة البَلْسَم الشَافِي، مَهْمَا تَوَتَرَت العِلاقَة ومَهْمَا تَكَالَبَتْ عَليها المَسْؤُولِيات ومَهْمَا عَانَت مِنْ المشاكل المادية. الكلماتُ الحَانِية كَلِماتٌ مجانية، تُجَمْلُ العلاقة وتُبَعْثِرُ آلامها وتُشَتِتُ مَشاكِلها، ناهِيكَ عَنْ الأجرِ العظيم ، فَتلكَ هي الكَلِمَة الطَيِبة التي لا تَتَنافى مَعَ الأديانِ كُلِها والمَذاهِبِ جُلِّها، ولا تُناقِضُ الأخلاق فِي كُلِ بِقاعِ العالم، لها مَفْعُولَها السِحري ، وأَثَرها العَمِيقْ.
يَظُنُ البَعَض ، أَنَّ ذَلك دليلُ قوة ، حِينَ يَكْتُمُ مَشاعرهُ،ويُغَلِفُ فُؤادهُ بِغِلافِ الفُتُور ويَصُونُ لِسانهُ مِنْ كُلِ كَلامٍ لَيّنٍ حَانِي، جاهلاً أنَّ فِي ذلكَ ضَعفٌ شَدِيد وبُخْلٌ عنيف. لَعَلِي مِنْ المُوقِنِين أَنَهُ لَوكانَ الجاحظُ فِي زَمانِنَا لَألَّفَ كِتابهُ البُخَلاء مَرةً أُخرى ، ولَكنهُ فِي هذه المَرّة لَن يَذكُر لنا قَصَص بُخلاء الدَراهِم والدنانِير، وَلكنهُ سَيَذْكُر قَصَص بُخَلاء المَشاعِر، فَهُم أَعْظمُ دُنواً مِنْ بَخيلِ الدرهم والدينار.
اللهم باعِد بَينَنا وبَيْنَ البُخل كُلِه كَمَا باعَدْتَ بَيْنَ المَشْرق والمَغرب.. اللهم آمين..
التعليقات